الزكاة فريضةٌ من فرائض الله عز وجل، وهي الركن المالي من أركان الإسلام ودعائمه الخمس،وقد ورد ذكرها مقترنة بالصلاة في كثير من النصوص القرآنية كما في قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ}سورة البقرة الآية 43.
وقوله تعالى:{وأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}سورة البقرة الآية 110.
وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}سورة البقرة الآية 277.وغير ذلك من الآيات القرآنية الكريمة.
وثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(بُني الإسلام على خَمْسٍ:شهادة ألا إله إلا الله،وأن محمداً رسول الله،وإقام الصلاة،وإيتاء الزكاة،وصوم رمضان،وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً)رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال:(ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني وسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك،فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة،فإن هم أطاعوك لذلك،فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم،تُؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)رواه البخاري ومسلم.
وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في عقوبة تاركها،فقد ورد في الحديث عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، قيل يا رسول الله فالإبل قال:ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاعٍٍ قرقرٍٍ أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرَّ عليه أولاها رُدَّ عليه أُخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة،حتى يُقضى بين العباد فيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، قيل يا رسول الله فالبقر والغنم قال: ولا صاحب بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مرًّ عليه أولاها رُدَّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) رواه مسلم. هذا أولاً.
وأما ثانياً:فإن الله عز وجل وهو العليم الخبير قد خصَّ بعضَ الأمكنة وبعض الأزمنة وبعض الأشخاص بخصائص، قال الله تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}سورة القصص الآية 68،وكما قيل” لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص” فهو سبحانه جعل فضائل وخصائص لبعض الأزمنة كشهر رمضان، فاختاره لإنزال القرآن الكريم،كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}سورة البقرة الآية 185،وجعل فضيلة لليلة القدر كما قال تعال:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}سورة الدخان الآية 3،وقال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}سورة القدر الآيات 1-3،وجعل فضيلة للعشر الأول من شهر ذي الحجة كما قال تعالى:{وَالْفَجْرِ،وَلَيَالٍ عَشْر}سورة الفجر الآيتان 1-2.
وجعل فضيلة ليوم الجمعة كما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم،وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها،ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)رواه مسلم.
وكذلك فإن الله جل جلاله قد جعل فضائل لبعض الأمكنة كالبيت الحرام كما قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}سورة آل عمران الآية 96،وكالمسجد الأقصى كما في قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}سـورة الإسـراء الآية1. وجعل أرض فلسطين أرضاً مباركة كما في قوله تعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}سورة الأنبياء الآية71. وقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ}سورة سبأ الآية 18.
وقوله تعالى:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}سورة الأنبياء الآية81.
وكذلك فإن الله جل جلاله قد جعل فضائل لبعض الأشخاص كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}سورة آل عمران الآية 33.
ولا شك أن للعمل الصالح فضلية خاصة في رمضان ومنها الزكاة وصدقة التطوع بناءً على فضيلة الزمان.
ثالثاً:الثابت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إكثار الصدقة في رمضان وهذا يشمل الفريضة والنافلة،قال الإمام البخاري في صحيحه:[باب أجودُ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان] ثم روى بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ الناس،وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل،وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن وكان صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة)رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:[ قوله:(وكان أجود ما يكون)…والتقدير:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره…قوله:(فيدارسه القرآن)قيل الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس،والغنى سبب الجود.والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي،وهو أعم من الصدقة. وأيضا فرمضان موسم الخيرات؛لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره،فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده.فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود.والعلم عند الله تعالى]فتح الباري1/6.
وقال الإمام النووي:[وفي هذا الحديث فوائد منها بيان عظم جوده صلى الله عليه وسلم،ومنها استحباب إكثار الجود في رمضان،ومنها زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم ومنها استحباب مدارسة القرآن] شرح النووي على صحيح مسلم 15/69.
رابعاً:الزكاة عبادة لها شروطها،ومن ضمن تلك الشروط حولان الحول،وهو شرط في بعض الأموال التي تجب فيها الزكاة،قال الشيخ ابن رشد:[وأما وقت الزكاة فإن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم ولانتشار العمل به،ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف.وقد روي مرفوعاً من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) وهذا مجمعٌ عليه عند فقهاء الأمصار وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية] بداية المجتهد 5/78-79. ومن الأموال الزكوية ما لا يشترط له الحول كالزروع والثمار قال تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام الآية 141،وهذه الآية في زكاة الزروع ويلحق بها غيرها من الثمار ونحوها.
وبناءً على ذلك فإذا حال الحول على المال فيجب المبادرة بإخراج الزكاة،لأن الزكاة واجبة على الفور،قال الإمام النووي:[قد ذكرنا أن مذهبنا أنها إذا وجبت الزكاة وتمكن من إخراجها،وجب الإخراج على الفور فإن أخرها أثم،وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء] المجموع 5/335.
وبناءً على ذلك إذا وجبت الزكاة على شخصٍ في شهر رجب مثلاً،فلا يجوز أن يؤخرها إلى رمضان طلباً لفضيلة الزمان،بل الواجب المسارعة في إخراجها.
وأما إذا كان موعد وجوبها في شهر ذي القعدة، ورغب في تعجيل إخراجها في رمضان طلباً لفضيلة الزمان،فلا حرج في ذلك، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء،حيث يجوز عندهم تعجيل زكاة الأموال التي يشترط لها الحول قبل حلول الحول،وهو قول الحسن البصري وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي والحنفية والشافعية والحنابلة، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم،انظر المغني 2/470،
ويدل على ذلك أحاديث منها:عن علي رضي الله عنه(أن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأل الرسول عليه الصلاة والسلام في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ،فرخص له في ذلك) رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما. وقال العلامة الألباني:حديث حسن،صحيح سنن الترمذي1/207.
وعن علي أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب:(إنا أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام) رواه أبو داود والترمذي، وقال العلامة الألباني:حسن أيضاً صحيح سنن الترمذي 1/20.
خامساً:الأصل في الزكاة أن تُخرج عندما تتحقق شروط الوجوب، ومنها شرط الحول، دون ربط ذلك برمضان أو غيره من الشهور، وفي هذا حكمة عظيمة، حيث تدور الزكاة مع أشهر العام كله، وفي هذا إغناء للفقراء ومستحقي الزكاة طوال العام، فإذا حصرنا إخراج الزكاة في رمضان فقط، فإن ذلك يُحدث خللاً في التوزيع على الأصناف المستحقة لها، فتكثر الزكاة في رمضان وتقل في سائر الشهور.
وخلاصة الأمر أن الأصل هو إخراج الزكاة عندما تتحقق شروط وجوبها، ومن ضمن ذلك حولان الحول، بدون ربط ذلك بشهرٍ بعينه، ويجوز إخراجها في رمضان تعجيلاً لها إذا كانت هنالك مصلحة للمستحقين. وأما الصدقة النافلة فلها فضل عظيم إذا كانت في رمضان لفضليه الزمان.